الخميس، 14 مارس 2019

ذي قار






ومن  ضروب وفاء العرب قديما ما فعله هانئ بن مسعود الشيباني حتي جر ذلك يوم ذي قار . وكان من خبره أن النعمان بن المنذر خاف من كسري وأيقن هلاكه فأودع ماله وأهله  و حلقته في قبيلة بكر بن وائل عند هانئ بن مسعود . فلما أتي كسري إلي النعمان حبسه بالمدائن ثم قتله . 
ثم أرسل كسري إلي هانئ بن مسعود يطالبه بوديعة النعمان فقال له : إن النعمان كان عاملي فأبعث إلي بوديعته و لا تكلفني أن أبعث إليك بالجنود تقتل المقاتلة وتسبي الذرية . فبعث إليه هانئ بن مسعود قائلا : إن الذي بلغك باطل . و ما عندي قليل و لا كثير , و إن يكن الأمر كما قيل فأنا أحد الرجلين " إما رجل استودع أمانة فهو حقيق أن يردها علي من استودعه إياها  و لن يسلم الحر أمانته , أو رجل مكذوب عليه فليس ينبغي للملك أن يأخذه بقول عدو و  حاسد "
     فبعث كسري إليهم الجيوش .
عقد للنعمان بن زرعة علي تغلب و النمر .
وعقد لخالد بن يزيد البهراني علي قضاعة و إياد .
و عقد لإياس بن قصيبة الطائي علي جميع العرب  و معه كتيبتاه الشهباء و الدوسر , فكانت العرب ثلاثة آلاف .
و عقد للهامرز علي ألف من الأساورة .
وعقد لخنابزين علي ألف . وبعث معهم باللطية ( اللطيمة هي عير كانت تخرج من العراق فيها البز و العطر  و الألطاف توصل إلي باذام عامله علي اليمن .
وعهد إليهم كسري إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة . فإن اتوكم بالحلقة و مائة غلام منهم يكونون رهنا بما أحدث سفهاؤكم فاقبلوا منهم و إلا قاتلوهم . و كان كسري قد أوقع ببني تميم يوم الصفقة و العرب منه خائفة و وجله ..
فلما بلغ هانئ بن مسعود الخبر جاء حتي نزل بذي قار ..
و جاءهم النعمان بن زرعة وكانت جدته عجلية . فحمد الله و أثني عليه وقال : إنكم أخوالي و أحد طرفي , و إن الرائد لا يكذب أهله  ,  و قد أتاكم  ما لا قبل لكم به من أحرار فارس و فرسان العرب , و الكتيبتان " الشهباء - الدوسر " و إن في الشر خيارا . و لأن يفتدي بعضكم بعضا خير من أن تصطلموا . فانظروا هذه الحلقة فادفعوها . و ادفعوا رهنا من أبنائكم . 
فقال له القوم : ننظر في أمرنا , و نبغث إلي من يلينا من بكر بن وائل .
     و برزوا ببطحاء ذي قار ثم انتظروا أصحابهم , كلما جاء سيد لنتظروا الآخر حتي جاء ثعلبة بن حنظلة بن سيار العجلي فقالوا له : يا أبا معدان , قد طال انتظارنا , و قد كرهنا أن نقطع أمراً دونك ، و هذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاءنا ، و الرائد لا يكذب أهله ، 
قال : فما الذي أجمع عليه رأيكم و أتفق عليه ملؤكم ؟ 
قالوا : قلنا إن في الشر خياراً ، و لأن يفتدي بعضنا بعضاً خير من أن نصطلم جميعاً .
فقال حنظلة : قبح الله هذا رأياً ، ثم نزل و نزل الناس .
ثم قال لهانئ بن مسعود : " يل أبا أمامةَ ، إن ذمتكم ذمتنا عامةً ، و إنه لن يوصل إليك حتي تفني أرواحنا ، فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك ، فإن تظفر فسترد عليك ، و إن تهلك فأيسر مفقود . 
     فأمر بها فأخرجت ففرقها بينهم .ثم قال حنظلة للنعمان : لولا أنك رسول لما أُيت إلي قومك سالماً ، فرجع النعمان ؛ و بات الفريقان يتأهبون للحرب . 
     و أمر حنظلة بالظعن جميعاً فوقفها خلف الناس ثم قال يا معشر بكر بن وائل قاتلوا عن ظعنكم أو دعوا ؛  و انصرفت بني قيس بن ثعلبة فلم يشهدوها . 
و قال لهم ربيعة بن عراك السكوني ثم التجيبي ، و كان نازلاً في بني شيبان :  أما إني لوكنت منكم لأشرت عليكن برأي مثل عروة العكم .
  فقالوا : فأنت و الله من أوسطنا فأشر علينا . 
فقال : لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها ، و لكن تكردسوا لهم كراديس يشد عليهم كردوس كردوس ، فإذا أقبلوا عليه شد الآخر ، فقالوا إنك قد رأيت رأياً ، ففعلوا . و قام هانئ بن مسعود و قال :  " يا قوم مهلك معذور خير من منجي مغرور ، إن الحذر لا يدفع القدر ، و إن الصبر من أسباب الظفر ، و المنية و لا الدنية ، و استقبال الموت خير من استدباره ، و الطعن في الثغر أكرم منه في الدبر ؛ يا آل بكر شدوا و استعدوا ، و إلا تشدوا تردوا . " 
ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلي وضين  ( الوضين هو حبليشد حول بطن الناقه يربط الراحلة ) راحلة امرأته فقطعه ، ثم تتبع النساء فقطع وضينهن لئلا يفزعهن الرجال ، فسمي يومئذ مقطع الوضين - ثم إن القوم اقتتلوا صدر نهارهم أشد قتال رآه الناس إلي أن زالت الشمس ، فشد الحوفزان و اسمه الحارث بن شريك علي الهامرز فقتله ، وقتلت بني عجل خنابزين ، و ضرب الله وجوه الفرس فانهزموا ، وتبعهم بكر بن وائل ، وقتل خالد بن يزيد البهراني ، قتله الأسود بن شريك بن غمرو ، و قتل عمرو بن زيد العبادي الشاعر ؛ و لحق أسود بن بحتر بن عائد بن شريك العجلي النعمان ابن زرعة فقال له : يا نعمان هلم إلي فأنا خير آسر ،  أنا خير لك من العطش . قال : ومن أنت ؟ قال : الأسود بن بحتر ، فوضع يده في يده فجز ناصيته و خلي سبيله ، و حمبه الأسود علي فرس له و قال له : انج علس هذه فإنها أجود من فرسك ، و جاء الاسود بن بحتر علي فرس النعمان ، و أفلت إياس بن قبيصة و تبعتهم بكر بن وائل حتي شارفوا السواد فلم يفلت منهم كبير أحد ، و كان أول من انصرف إلي كسري بالهزيمة إياس بن قبيصه ، و كان كسري لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه ، فلما أتاه إياس سأله عن الخبر . 
فقال : لقد هزمنا بكر بن وائل و أتيناك بنسائهم ، فأعجب ذلك كسري و أمر له بكسوةٍ . ثم أستأذن إياس كسري و قال له : أن أخي مريض بعين التمر ؛ و أراد بذلك أن يتنحي عن كسري ، فأذن له كسري  ، فترك فرسه الحمامه التي نجا عليها ، و ركب نجيبة له ولحق بأخيه .
ثم أتي كسري رجل من أهل الحيرة فسأل : هل دخل  علي الملك أحد ؟ قالوا : نعم إياس ، قال : ثكلت إياساً أمهُ ، و ظن أنه قد حدثه بالخبر ،  فدخل علي كسري و أبلغه بهزيمة جيشه ، فأمر به فنزعت كتفاه . 
" و كانت وقعة ذي قار بعد  غزوة بدر بأشهر و رسول الله صل الله عليه وسلم بالمدينة ،  و روي أنه صل الله عليه وسلم تمثلت له الوقعة و هو بالمدينة ؛  فرفع يديه و دعا لبني شيبان ، و لما بلغته الوقعة قال : هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم و بي نصروا . ذلك هو الوفاء بالامانة .
                              إرث العرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق