الثلاثاء، 20 نوفمبر 2018

خطبة الحجاج يوم تولي العراق

  


   ورد الينا فيما تركه لنا اجدادنا من تراث انه روي لنا عبد الملك بن عمير انه قال لما بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان اضطراب اهل العراق جمع اهل بيته و اولي النجده من جنده وقال : يا أيها الناس ، إن العراق كدر ماؤها ، و كثر غوغاؤها ، و أملولح عذبها ، وعظم خطبها ، و ظهر ضرامها ، وعسر إخماد نيرانها فهل من ممهد لها بسيف قاطع ، وذهن جامع ، وقلب ذكي ، وأنف حمي ، فيخمد نيرانها ، ويردع غيلانها ، وينصف مظلومها ، ويداوي الجرح حتي يندمل فتصفو البلاد ، وتأمن العباد .

فسكت أهل بيته وجنده لم يتحدث أحد حتي قام الحجاج بن يوسف وقال : يا امير المؤمنين أنا للعراق .
فقال : ومن انت لله أبوك ؟ قال الحجاج يصف نفسه : أنا الليث الضمضام ، والهزبر الهشام ، أنا الحجاج بن يوسف .
فقال الامير : ومن أين ؟ فقال الحجاج : من ثقيف كهوف الضيوف ومستعمل السيوف .
قال الامير: أجلس لا أم لك فلست لهناك .
     ثم قال الامير : ما لي اري الرؤوس مطرقة و الألسن معتقلة ، فلم يجبه أحد ، فقام اليه الحجاج وقال : أنا مجندل الفساق : ومطفئ نار النفاق .
فقال الامير من انت ؟ قال الحجاج : أنا قاصم الظلمة ، معدن الحكمة الحجاج بن يوسف معدن العفو و العقوبه ،آفة الكفر و الريبة ، فقال الامير إليك عني ، وذالك ، فلست هناك .
     ثم قال الامير : من للعراق ؟ فسكت القوم جميعا ، وقام الحجاج وقال : أنا للعراق ، فقال الامير : إذن أظنك صاحبها والظافر بغنائمها  وإن لكل شئ يا ابن يوسف آيه وعلامة، فما آيتك وما علامتك ؟
   فقال الحجاج بن يوسف : العقوبة والعفو ، والاقتدار والبسط ، والازورار و الإدناء ، و الابعاد و الجفاء ، والبر والتأهب ، و الحزم وخوض غمرات الحروب بجنان غير هيوب ، فمن جادلني قطعته ، ومن نازعني قصمته ، ومن خالفني نزعته ، ومن دنا مني أكرمته ، ومن طلب الأمان أعطيته ، ومن سارع الي الطاعه بجلته ، فهذه آيتي وعلامتي ، وما عليك يا أمير المؤمنين أن تبلوني ، فإن كنت للأعناق قطاعاً ، و للأموال جماعاً ، وللأرواح نزاعاً ، ولك في الأشياء نفاعاً ، وإلا فليستبدل بي أمير المؤمنين ، فإن الناس كثير ، ولكن من يقوم بهذا الأمر قليل .
     فقال عبد الملك : أنت لها ، فما الذي تحتاج إليه ؟ قال الحجاج : قليل من الجند والمال .
فدعا أمير المؤمنين عبد الملك صاحب جندة فقال : هيئ له من الجند شهوته و ألزمهم طاعته ، وحذرهم من مخالفته ، ثم دعا الخازن ، فأمره بمثل ما أمر صاحب الجند فخرج الحجاج قاصداً العراق .
     قال  عبد الملك بن عمير : فبينما نحن في المسجد الجامع بالكوفه إذا أتانا آت فقال : هذا الحجاج قدم أميراً علي العراق ، فتطاولت العناق نحوه و افرجوا له عن صحن المسجد ، فإذا نحن به يمشي وعليه عمامة حمراء متلثماً بها ، ثم صعد المنبر ، فلم يتكلم كلمة واحدة ، ولا نطق بحرف حتي غص المسجد بأهله ، و أهل الكوفة يومئذ ذوو حالة حسنة وهيئة جميلة ، فكان الواحد منهم يدخل المسجد ومعه العشرون والثلاثون من أهل بيته و مواليه و أتباعه عليهم الخز و الديباج قال : وكان في المسجد يومئذ عمرو بن صابئ التميمي , فلما رأي الحجاج علي المنبر قال لصاحب له : أسبه لكم ؟ قال اكفف حتي نسمع ما يقول ، فأبي ابن صابئ وقال : لعن الله بني أمية حيث يولون مثل هذا علي العراق ، وضيع الله العراق حيث يكون هذا  أميرها ،  فو الله لو دام هذا أميراً كما هو ما كان بشئ ، والحجاج ساكت ينظر يميناً وشمالاً ، فلما رأي المسجد قد غض بأهله قال : هل أجتمعتم ؟ فلم برد عليه أحد شيئاً ، فقال : أني لا أعرف قدر أجتماعكم ، فهل اجتمعتم ؟ فقال رجل من القوم : قد أجتمعنا أصلح الله الأمير ، فكشف عن لثامه ، ونهض قائماً فكان أول ما نطق به أن قال : و الله إني لأري رؤوساً أينعت وقد حان وقت قطافها وإني لصاحبها ، وإني لأري الدماء ترقرق بين العمائم و اللحى ، و الله يا أهل العراق إن امير المؤمنين نثر كنانة بين يديه فجمع عيدانها ، فوجدني أمرها عوداً واصلبها مكسراً ، فرماكم بي لأنكم طالما أثرتم الفتنة ، و أضطجعنم في مراقد الضلال ، والله لأنكلن بكم في البلاد و لأجعلنكم مثلاً في كل واد ، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل ، وإني يا أهل العراق لا أعد إلا وفيت ، ولا أعزم إلا امضيت ، فإياي وهذه الزرافات و الجماعات ، وقيل وقال وكان ويكون ، يا أهل العراق إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ، فكفرت بأنعم  الله ، فأتاها وعيد القرى من ربها ، فاستوثقوا واستقيموا ، واهملوا ولا تميلوا ، وتابعوا، وبايعوا، واجتمعوا ، واستمعوا ، فليس من الإهدار و الإكثار إنما هو هذا السيف ، ثم لا ينسلخ الشتاء من الصيف حتي يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم ، ويقيم له أودكم ثم إني وجدت الصدق مع البر ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب مع الفجور ، وجدت الفجور في النار ، وقد وجهني أمير المؤمنين إليكم ، و أمرني أن انفق فيكم و أوجهكم لمحاربة عدوكم مع ( المهلب بن أبي صفرة ) وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً يتخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه ، يا غلام : اقرأ كتاب أمير المؤمنين .
     فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلي من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم ، فلم يرد أحد شيئاً ، فقال الحجاج : اكفف يا غلام ، ثم أقبل علي الناس فقال : أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون شيئاً عليه ؟ هذا أدبكم الذي تأدبتم به ، أما والله لأؤدبنكم أدباً غير هذا الأدب ، اقرأ يا غلام ، فقرأ حتي بلغ قوله : سلام عليكم فلم يبد أحد إلا قال : وعلي أمير المؤمنين السلام ، ثم نزل بعدما فرغ من خطبتة وقراءته ، ووضع للناس عطاياهم فجعلوا يأخذونها حتي أتاه شيخ يرتعش ، فقال : أيها الأمير إني علي الضعف كما تري ولي ابن هو أقوي مني علي الأسفار ، أفتقبله بدلاً مني ؟ فقال : نقبله أيها الشيخ ، فلما ذهب الرجل قال قائل : أتدري من هذا أيها الأمير ؟ فقال : لا .  قال :  هذا ابن صابئ الذي يقول :
            هممت ولم أفعل وكدت وليتني        تركت علي عثمان تبكي حلائله
ولقد دخل هذا الشيخ علي ( سيدنا عثمان رضي الله عنه ) وهو مقتول ، فوطئ في بطنه  ، فكسر ضلعين من أضلاعه ، فقال الحجاج : ردوه فلما ردوه قال له الحجاج : أنت الفاعل بأمير المؤمنين عثمان ما فعلت يوم قتل الدار ؟
إن في قتلك أيها الشيخ إصلاحا للمسلمين . وأمر السياف بضرب عنقه فضرب عنقه


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق